الإدمان على المعرفة .. متعة للعقل أم للروح ؟
لماذا هناك
منْ لديه هوس بالمعرفة وشغف بالتعمق في العلم؟ ولماذا نجد هذا فقط لدى بعض
الناس دون غيرهم؟ أي وبمعنى أخر، هل من تعليل علمي لمفهوم حال الضد في بيت
شعر المتنبي:
ذو العقل يشقى في النعيم بعقله وأخو الشقاوة بالجهالة
ينعم! أي لماذا يشقى الإنسان الذي لديه عقل يحب المعرفة والعلم حينما يركن
إلى حياة الخمول، ولا يستخدم بالتالي عقله باستمرار في التعلم وحل الألغاز
والمسائل الرياضية الصعبة؟ في حين ترى الشقي ينعم في الجهل.
الفلاسفة
والمفكرون والمربون لديهم تعليل سليم وبسيط، مستمد من الملاحظة واستقراء
الحال. وهو أن من تعود البحث والقراءة والتعلم وحل الألغاز والمسائل
الرياضية، لن يجد الراحة طالماً كان بعيداً عن هذا.
* الإدمان على المعرفة
* لكن كيف؟، كيف نفهم ونتقبل أنها متعة للعقل؟
علماء
الأعصاب قدموا لنا تفسيراً منطقياً وسهلاً لتأكيد أن ثمة متعة حقيقية
تجتاح الدماغ، ويُحس بها الإنسان عندما يلتقط المعلومة، أو يفهم شيئاً
جديداً. وأيضاً قدموا لنا الآلية التي يتم بها نشوء المتعة في الدماغ،
وشبهوا الأمر بالإدمان على الأفيون. ولذا فإن مدمني الأفيون لا يحتاجون
هذه المادة من الدماغ، ويغدون أشخاصاً كسولين وخاملين علمياً. اما تعليل
الادمان على المعرفة فقد وصف العلماء الإدمان بلغة بسيطة، وهو الاعتماد
على شيء معين كمصدر للحصول على اللذة أياً كان نوعها. ولا تنشأ الحالة إلا
لدى من تكرر استخدامه لهذا المصدر، وتعودت نفسه عليه، وأحس بالفرق حين
حرمانه منه. وهو ما ينطبق على علاقة الدماغ بالمعرفة.
الباحثون من
جامعة جنوبي كاليفورنيا يقولون أن الدماغ يأخذ مكافأة ذاتية عند التقاطه
معلومة جديدة أو حله لمسألة ذهنية صعبة. والمكافأة هذه عبارة عن جرعة من
مادة الأفيون! والفرقعة الذهنية عند فهم أمر جديد، تعمل على البدء بسلسلة
من التفاعلات الكيميائية السريعة، وتنتج في نهاية الأمر دفقة من مادة
طبيعية شبيهة في مفعولها على الدماغ بالأفيون، وذلك على حد قول بروفسور
العلوم العصبية بجامعة جنوبي كاليفورنيا، الدكتور ايرفنغ بيدرمان الذي وضع
فرضيته الجديدة في نتائج البحث المنشور في العدد الأخير من مجلة «العلماء
الأميركيين».
ويوضح قائلاً، حينما يحاول أحدنا فهم نظرية أو معلومة
صعبة، فالأمر غالباً شاق وليس مجرد مرح، لكن بمجرد فهمها والتقاط تلك
المعلومة بشكل سليم، ينتاب الإنسان شعور عارم بالرضا والسعادة. ولذا فحاجة
دماغ الواحد منّا إلى ما يعيد الهدوء والسكينة إليه، أو ما نصفه بالعامية
«فلان يحتاج أن يعدل دماغه»، هي الدافع للناس كي يرفعوا إلى أقصى حد من
قدرات الاستيعاب الذهني لديهم للمعلومات والمعرفة. ويعلق البروفسور
بيدرمان قائلاً: مزاجنا الذهني مفتون بتجميع المعرفة في كل ثانية كما هو
حال تجار القطع الأثرية في الحرص على اقتناء القديم والقيم منها.
وفرضية
بيدرمان حول الإدمان المعرفي والعلمي لها قيمة تطورية قوية، ومرتبطة جداً
بمستوى الإدراك الذكائي. ويحتاج الأمر إلى عناصر ضاغطة بشكل قوي، كالجوع
مثلاً، كي يُؤجل الدماغ رغبته في البحث عن المعرفة. وعلى حد قوله فإن نفس
الأمر ينطبق على تقدير الجمال الفني البصري والمتعة في التفاعل معه.
*
أساس الفرضية وفرضية البروفسور بيدرمان مستوحاة من نتائج بحث تم إهماله
منذ ربع قرن حول مستقبلات المواد الأفيونية الطبيعية في خلايا الدماغ، أي
نقاط جدار الخلية الدماغية التي تشبك وتعلق عليها مواد اللذة هذه، لتقوم
حينها ببعث الشعور باللذة في الخلايا الدماغية. وهذه المستقبلات تكثر في
الخلايا الدماغية لمنطقة «حزمة أعصاب الطريق البصري الجوفي»، وهي جزء من
الدماغ معني بملاحظة وتحليل الصور وترجمة معانيها للذهن، وفق آليات غاية
في التعقيد. والمستقبلات هذه مجمعة ومركزة بشدة في خلايا الحزمة العصبية
في المناطق المعنية بفهم وإدراك معاني الصور المرسومة أو المكتوبة، ولا
توجد في المناطق المعنية باستقبال الدماغ للصور المرئية في أول الأمر، أي
أنها توجد في مناطق تعمل في مراحل متقدمة من عملية التحليل الذهني لمعاني
الصور المشاهدة وتحديد مدلولاتها، فلا يثُيرها إلا ما يستدعي التحليل
والفهم وليس مجرد الاستقبال الأولى المبدئي. ولذا فالباحثون يقولون كلما
كثر النشاط العصبي في أثناء الجهد للتحليل والفهم في المنطقة الغنية
بمستقبلات الأفيون، كلما كان الشعور باللذة أعظم عند نجاحها في الوصول إلى
الفهم وحل الغموض.
وفي سلسلة من صور متفرقة لمناطق متنوعة من الدماغ
بالرنين المغنطيسي لمتطوعين عرضت عليهم أنواع عدة من الصور،وجد فريق
البروفسور بيدرمان أنهم فضلوا بشدة الصور التي أثارتهم بشكل ملفت لتحليلها
وفهمها، وزادت من نشاط الإفراز في المناطق الغنية بمستقبلات الأفيون. كما
ولاحظ البروفسور بيدرمان أن تكرار عرض الصور الجذابة للشخص في البداية
يُؤدي إلى تدن تدريجي في إثارة مناطق إفراز المواد الشبيهة بالأفيون مع
تكرار العرض، وبالتالي قلة إفراز المواد الكيميائية الباعثة على الشعور
باللذة من فهمها.
كما وعرض في البحث أن الخبرة والتعود مرتبطة بشبكة
عصبية سُميت التنافس التعليمي. وفيها أن الرؤية الأولى لشيء ما تُثير
وتُنشط العديد من الخلايا العصبية، بعضها تتم إثارته بقوة بينما الغالبية
منها تُثار بشكل ضعيف. وبتكرار مشاهدة المنظر المفهوم من المرة الأولى،
فإن الروابط تنمو بقوة بين الخلايا التي تمت إثارتها بشكل قوي في أول مرة،
لكن ليس للعمل على إثارة خلايا الدماغ بل لإضعاف التأثر، مما يجعل محصلة
التفاعل الكلي لخلايا الدماغ عند تكرار مشاهدة الصورة المثيرة أقل في كل
مرة من المرات التالية. الأمر الذي يعني أن هذه الخلايا مهيأة وقابلة
للإثارة بأشياء جديدة فقط. وهذه هي الفائدة العظيمة، لأن خلايا الدماغ لو
تأثرت بشكل قوي في كل مرة لما أمكنها أن تستوعب أي شيء جديد حولها أو حول
سواها. ولذا فإن هذا التفضيل للأفكار والمفاهيم الجديدة له قيمة تطويرية
للمعرفة والإطلاع البشري. فالنظام في إدراك الدماغ مُصمم بالأساس لبلوغ
أقصى طاقة للسرعة التي يتم بها اكتساب معلومات جديدة بشرط أن تكون مفهومة.
وعند فهم واستيعاب المعلومة، فما على الإنسان إلا الانتقال لفهم معلومة
جديدة أخرى وخزنها في ذاكرة الدماغ من المعلومات.
ويعلق البروفسور
بيدرمان بأن هذا النظام في الاختيار شيء لا يمكن تصديقه، لكننا أثبتنا أنه
حقيقة ما يدور في الدماغ عند التعامل مع المعلومات الجديدة. ودونما أي
تفكير منا به، فإننا نلتقط ونملأ مخزوناً من الخبرات في الذاكرة بأشياء
غنية في التفسير والتأويل لكنها أيضاً من النوع النادر وغير العادي
والجديد.