وأما الاستدلال بقول الله عز وجل لموسى وهارون : ( فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى )
فنقول : كيف فهم موسى عليه الصلاة والسلام هذا الأمر ؟
هل فهمه على القول الليِّن مُطلقاً ، وعلى الرخاوة عموماً ؟
هذا ما لم يفهمه موسى عليه الصلاة والسلام بدليل أنه أغلظ لفرعون في موطن الشدة والقوة
فلما قال له فرعون : ( إِنِّي لأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا )
ردّ عليه موسى بقوّة فقال : ( لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَـؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَآئِرَ وَإِنِّي لأظُنُّكَ يَا فِرْعَونُ مَثْبُورًا )
مَثْبُورًا ؟
نعـم !
هالكاً مدحورا مغلوبا !
وهذا مثله مثل الاستدلال بقول الله تبارك وتعالى لِنبيِّـه صلى الله عليه على آله وسلم : ( وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ )
وسوف أستعرض معكم بعض المواقف التي فيها شِدّة وقوّة في الإنكار ،
ولا تعارض بينها وبين هذه الآية ، كما لا تعارض بين أمر موسى – عليه الصلاة والسلام – بالقول الليّن ، وبين شدّته على فرعون وقوّة لفظه وجزالة خطابه معه .
وهذه بعض المواقف من حياته صلى الله عليه على آله وسلم
والشدّة تكون مع الكافر وتكون مع المسلم .
اجتمع أشراف قريش يوما في الحجر ، فذكروا رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقالوا : ما رأينا مثل ما صبرنا عليه من هذا الرجل قط ! سفّـه أحلامنا ، وشتم آباءنا ، وعاب ديننا ، وفرق جماعتنا ، وسب آلهتنا . لقد صبرنا منه على أمر عظيم . فبينما هم كذلك إذا طلع عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل يمشي حتى استلم الركن ، ثم مرّ بهم طائفا بالبيت ، فلما أن مر بهم غمزوه ببعض ما يقول
قال عبد الله بن عمرو : فعرفت ذلك في وجهه ، ثم مضى فلما مر بهم الثانية غمزوه بمثلها ، فعرفت ذلك في وجهه ، ثم مضى ثم مر بهم الثالثة فغمزوه بمثلها ،
فقال : تسمعون يا معشر قريش ، أما والذي نفس محمد بيده لقد جئتكم بالذبح . فأخذت القوم كلمته حتى ما منهم رجل إلا كأنما على رأسه طائر واقع ! حتى إن أشدهم فيه وَصَاة قبل ذلك ليرفأه بأحسن ما يجد من القول ،
حتى إنه ليقول : انصرف يا أبا القاسم ، انصرف راشداً ، فو الله ما كنت جهولا ! قال : فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم .
رواه الإمام أحمد بإسناد حسن .
أليست هـذه شِـدّة وغِلظـة ؟
ولو قيلت اليوم لكافر لعُـدّ ذلك من الغِلظة والتنفير !
ومن أشد ما رأيت مواقف الصحابة يوم الحديبيبة مع أنهم ليسوا في موقف قوة ، ولكن ردودهم وأقوالهم كانت هي القويّـة .
في يوم الحديبية أرسلت قريش رُسلها لمفاوضة النبي صلى الله عليه على آله وسلم ، فلم تُفلح تلك الجهود قام عروة بن مسعود الثقفي – وكان مشركا - فقال : أي قوم ! ألستم بالوالد ؟
قالوا : بلى .
قال : أوَ لست بالولد ؟
قالوا : بلى .
قال : فهل تتهمونني ؟
قالوا : لا .
قال : ألستم تعلمون أني استنفرت أهل عكاظ فلما بلّحوا عليّ جئتكم بأهلي وولدي ومن أطاعني ؟
قالوا : بلى .
قال : فإن هذا قد عرض لكم خطة رشد اقبلوها ودعوني آتيه .
قالوا : ائته ، فأتاه فجعل يُكلم النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم نحوا من قوله لِبُدَيْل ، فقال عروة عند ذلك : أي محمد أرأيت إن استأصلت أمر قومك ، هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أهله قبلك ؟ وإن تكن الأخرى فإني والله لأرى وجوها وإني لأرى أشوابا من الناس خليقا أن يَفِرُّوا ويدعوك !
فقال له أبو بكر : امصص ببظر اللات ! أنحن نفرّ عنه وندعه ؟
فقال عروة : من ذا ؟
قالوا : أبو بكر .
قال عروة : أما والذي نفسي بيده لولا يَـدٌ كانت لك عندي لم أجزك بها لأجبتك .
وجعل عروة يُكلم النبي صلى الله عليه وسلم فكلما تكلم أخذ بلحيته والمغيرة بن شعبة قائم على رأس النبي صلى الله عليه وسلم ومعه السيف وعليه المغفر ، فكلما أهوى عروة بيده إلى لحية النبي صلى الله عليه وسلم ضرب يده بِنَعْـلِ السيف ،
وقال له : أخِّـرْ يَدَكَ عن لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم ،
فرفع عروة رأسه فقال : من هذا ؟
قالوا : المغيرة بن شعبة .
فقال : أي غدر ! ألست أسعى في غدرتك ؟
وكان المغيرة صحب قوما في الجاهلية فقتلهم وأخذ أموالهم ثم جاء فأسلم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أما الإسلام فأقبل ، وأما المال فلست منه في شيء . ثم إن عروة جعل يرمق أصحابَ النبي صلى الله عليه وسلم بعينيه .
.....
فرجع عروة إلى أصحابه فقال : أي قوم والله لقد وَفَدْتُ على الملوك ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي ، والله إن رأيت ملِكاً قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم محمدا ، والله إن تنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فَدَلَكَ بها وجهه وجلده ، وإذا أمرهم ابتدروا أمره ، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وَضوئه ، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده ، وما يُحِدُّون إليه النظر تعظيماً له ، وإنه قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها ... الحديث . رواه البخاري .
أليست هـذه أيضا شِـدّة وغِلظـة وقـوّة ؟
ولو قيلت اليوم لكافر لعُـدّ ذلك من الغِلظة والتنفير !
ومع هذه الشِّدة
رجع إلى قومه بهذه الصورة المشرقة التي نقلها بكل صدق وأمانة لقومه ، وعرض عليهم ما عَرَضَه عليه رسول الله صلى الله عليه على آله وسلم .
كان هذا مع أئمة الكفر
فماذا كان مع أئمة النفاق ؟!
لما كان في غزوة تبوك قال النبي صلى الله عليه على آله وسلم : إنكم ستأتون غداً إن شاء الله عين تبوك ، وإنكم لن تأتوها حتى يُضحي النهار ، فمن جاءها منكم فلا يمسّ من مائها شيئا حتى آتي . فجئناها وقد سبقنا إليها رجلان والعين مثل الشراك تَـبِـضّ بشيء من ماء . قال فسألهما رسول الله صلى الله عليه وسلم : هل مسستما من مائها شيئا ؟ قالا : نعم . فسبهما النبي صلى الله عليه وسلم وقال لهما ما شاء الله أن يقول . رواه مسلم .
يحتاج المُعاند إلى أن يُعامل بشيء من الشدة والغلظة .
وروى مسلم عن سلمة بن الأكوع – رضي الله عنه – أن رجلا أكل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بشماله ، فقال : كُـلْ بيمينك . قال : لا أستطيع ! قال : لا استطعت . ما منعه إلا الكبر . قال : فما رفعها إلى فيه .
فقوله : لا استطعت . من باب الدعاء عليه .
فما فعها إلى فيه : أي ما رفع يده إلى فمِـه .
أليست هذه شِـدّة في الإنكار ؟
وثمة مواقف أُخـر ظهرت فيها الشِّـدّة في التعامل مما يدلّ على أن الرفق واللين ليس هو التعامل السائد أو الحل الدائم .
حَـدّث أنس بن مالك – رضي الله عنه – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دفع إلى حفصة ابنة عمر رجلاً فقال : احتفظي به . قال : فَغَفَـلَـتْ حفصة ، ومضى الرجل ، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : يا حفصة ما فعل الرجل ؟ قالت : غفلت عنه يا رسول الله فخرج . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قطع الله يدك . فَرَفَـعَـتْ يديها هكذا ، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ما شأنك يا حفصة ؟ فقالت : يا رسول الله قلت قبل لي كذا وكذا ! فقال لها : ضعي يديك ، فإني سألت الله عز وجل أيما إنسان من أمتي دعوت الله عليه أن يجعلها له مغفرة . رواه الإمام أحمد بإسناد صحيح .
وروى البيهقي مثل هذه القصة وأنها قعت لعائشة – رضي الله عنها –
والرجل المدفوع إلى حفصة – رضي الله عنها – إما كان أسيراً أو محبوساً ولم يكن له قيد .
وفي صحيح مسلم عن ابن عباس – رضي الله عنهما – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى خاتما من ذهب في يد رجل ، فنزعه فطرحه ، وقال :يعمد أحدكم إلى جمرة من نار فيجعلها في يده . فقيل للرجل بعد ما ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم : خُـذ خاتمك انتفع به . قال : لا والله لا آخذه أبدا ، وقد طرحه رسول الله صلى الله عليه وسلم .
والنّـزع يدل على الشِّـدّة .
وعلى هذا سـار أصحاب النبي صلى الله عليه على آله وسلم في التعامل بقوّة وشِـدّة فيما يحتاج إلى الشدّة .
روى مسلم عن عمارة بن رؤيبة – رضي الله عنه – أنه رأى بشر بن مروان على المنبر رافعا يديه فقال : قـبّـح الله هاتين اليدين ! لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يزيد على أن يقول بيده هكذا ، وأشار بإصبعه المسبحة .
وكان حذيفة بالمدائن فاستسقى ، فأتاه دهقان بقدح فضة ، فرماه به ، ثم قال : إني لم أرمه إلا أني نهيته فلم ينته ، وإن النبي صلى الله عليه وسلم نهانا عن الحرير والديباج والشرب في آنية الذهب والفضة وقال : هن لهم في الدنيا ، وهي لكم في الآخرة . متفق عليه .
وهذا عبد الله بن عمر يُحدّث فيقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : لا تمنعوا نساءكم المساجد إذا استأذنوكم إليها .
فقال بلال بن عبد الله بن عمر : والله لنمنعهن !
قال سالم بن عبد الله بن عمر : فأقبل عليه عبد الله فسبّه سبّـاً سيئا ما سمعته سبه مثله قط ، وقال : أخبرك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول : والله لنمنعهن ؟! متفق عليه .
ما رأيكم :
لو جاء مُدخِّـن تفوح منه روائح التدخين
أو جاء عامل ملابسه كلها زيوت أو دهانات
فأمسك بهم إمام المسجد أو المُحتَسِب ( رجل الهيئة ) ثم طردوا عن المسجد أو من المسجد !
ماذا يكون موقف المُشاهِد لذلك الموقف ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
سيقول :
ما بالكم تُنفِّرون الناس !
إن منكم مُنفّرين
تعاملوا بلطف !
لا تُضيّـقوا على عباد الله !
ما كان الرفق في شيء إلا زانه .
وربما تلا الآية ( وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ )
لكن هذا الفعل أو التصرف هو ما كان يحدث في زمن النبي صلى الله عليه على آله وسلم .
قال عمر – رضي الله عنه – : لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا وجد ريحهما من الرجل في المسجد أمر به فأخرج إلى البقيع ، فمن أكلهما فليمتهما طبخا . رواه مسلم .
يعني البصل والثوم .
قال بعض أهل العلم : وإنما يُخرجون إلى البقيع لأنه جهة المقبرة ، والموتى لا يتأذّون بتلك الروائح !
وينبغي التفريق في التعامل بين الجاهل الذي يحتاج إلى تعليم ، وبين المُعاند .
ويدلّ على ذلك حديث معاوية بن الحكم السلمي – رضي الله عنه – ، وهو في صحيح مسلم .
والحديث مع شيء من فوائده طرحته في أحد المنتديات ، وقد وضعته على هذا الرابط خشية الإطالة أكثر مما أطلت .
فالحديث بتمامه وفوائده هنا :
حديث معاوية بن الحكم السلمي – رضي الله عنه –
وما هذه إلا أمثلة لم أُرِد بها الحصـر .
المقال بعنوان:: قَـطَـع الله يــدك !كتبه الشيخ