بسم الله والصلاة والسلام على اشرف خلق الله
السلام عيكم ورحمة الله
الموت..حقيقة نغفلها وننساها
رجل
يقيم في منزل فاره، قد أُثِّثَ بأفخم الأثاث الرائع، تحيط بداره حديقة
غنّاء، فيها كل ما لذَّ وطاب، فيها ما يمتِّع العين، ويمتِّع الفم والأنف،
تلقى صاحب هذا الدار في يوم عن طريق البريد الرسمي كتاباً، فَضَّه وإذا هو
قرار صادر من محكمة لا استئناف فيها بأنه قد حُكِمَ عليه بالإعدام، ونظر
فوجد أن الحكم مصدقٌ من قبل أعلى سلطة في البلدة، كيف يكون حال هذا
الإنسان بعد ذلك مع هذه الدار التي يسكنها والمتعة التي يتقلّب فيها؟ إنه
ينظر إلى جمال الدار وألقها؛ ولكنه لا يرى فيها إلا القبح والسواد، وربما
مدّ يده عند الضرورة، ليتناول الضروري من الطعام ولكن اللقمة لا يستسيغها
إلا مع غُصص، وينظر إلى الحديقة التي تحيط بالدار فلا يرى فيها إلا ما
يوحشه، ولا يرى فيها إلا مظاهر البشاعة.
من
هو هذا الذي يسكن في هذه الدار وتَلَقَّى عن طريق البريد الرسمي هذا
القرار، إنه كل واحد منّا أيها الإخوة، كل واحد منّا يصدُق عليه هذا الذي
أقوله لكم، نحن نعيش من الدنيا التي نتقلب فيها في دار كهذه الدار، ونتمتع
بالمتع ذاتها، ولقد تلقى كل منّا قرار الحكم الذي لا يقبل استئنافاً، من
قبل أعظم سلطة في الكون، من قبل قيوم السماوات والأرض، من قبل مالك الملك
جل جلاله، ألم يقل: {أَيْنَما تَكُونُوا يَدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ
كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء: 4/78]، ألم يقل: {كُلُّ
نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْت} [آل عمران: 3/185]، ألم يقل لنا ولنبيه محمدٍ
صلى الله عليه وسلم: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:
39/30]، هل تستطيعون أن تتلمسوا فرقاً بين ذاك الذي يعيش في تلك الدار
الفارهة، ذاك الذي حدثتكم عن خبره، وحال كل واحد منّا؟ هل من فرق؟ لا يوجد
أي فرق، كلنا ذاك الذي حكم عليه بالإعدام، ولكننا جميعاً لا نعلم متى
سنساق إلى حيث ينفذ في حقنا الإعدام، كلنا - كما قلت أكثر من مرة - نقف في
طابور أمام بوابة الموت ولكن واحداً منّا لا يعلم، أهو يقف في مؤخرة
الطابور؟ أم في أوله، أم في منتصفه؟ نعم.
غير
أن هذا الذي حكم عليه بالإعدام ربما لم يكن يعلم من الموت ما نعلم، وربما
لم يكن يعلم شيئاً عن أخبار ما بعد الموت، أما نحن المؤمنون بالله سبحانه
وتعالى، فنعلم أن الموت رحلة إلى الله سبحانه وتعالى، ونقرأ في هذا قول
الله سبحانه وتعالى: {وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإِلَى اللَّهِ
تُحْشَرُونَ} [آل عمران: 3/158]، ونقرأ قول الله عز وجل: {كُلُّ نَفْسٍ
ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ
الْقِيامَةِ} [آل عمران: 3/185]، ونقرأ قوله عز وجل: {إِنَّكَ مَيِّتٌ
وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ، ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ
رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} [الزمر: 39/30-31]، ما المعنى الذي ندركه من هذه
الحقيقة التي تصدق على كل فردٍ فردٍ منّا في هذه الحياة الدنيا؟ ما المعنى
التربوي الكامن في هذا الحكم الذي تلقيناه حكماً مبرماً لا يقبل استئنافاً
من لدن قيوم السماوات والأرض؟
هذا
الحكم الذي تلقيناه أيها الإخوة هو الذي يقرب البعيد، وهو الذي يلين
القاسي والحديد، وهو الذي يجعل من الصعب سهلاً، وهو الذي يجعل من العسير
يسيراً، هذا الحكم الذي تلقيناه هو الذي يقرب البعيد، يجعلنا وكأننا نقف
في عَرَصات القيامة، إنّ كثيراً من الناس قد يرونه بعيداً، ولكن قرار الله
الصادر في حقّنا بالإعدام - إن جاز التعبير - يجعل ذلك البعيد البعيد
قريباً، ويجعل القريب الذي نتقلب فيه اليوم بعيداً، ألا ترون ذلك؟ عندما
أعلم أنني راحل من هذه الحياة الدنيا ولا أعلم متى سيحين رحيلي سأعيش في
اللحظة التي أقف فيها بين يدي الله، سأعيش في الحالة التي أجد فيها جهنم
تزفر زفراتها عن يساري والجنة عن يميني، في عالم لا عهد لي به، والدنيا
التي أعيش في غمارها تبتعد عن ناظري تبتعد عن فكري ثم تبتعد، ثم تبتعد، كل
ذلك بفضل الموت الذي يقرب البعيد، ويبعد القريب.
ويرحم
الله الحارث بن مالك الأنصاري إذ قال له المصطفى صلى الله عليه وسلم ذات
يوم: ((كيف أصبحت يا حارثة؟)) قال: أصبحت مؤمناً حقاً، قال: ((ويحك يا
حارثة، إن لكل شيء حقيقة فانظر ما حقيقة إيمانك))، قال: عزفت نفسي عن
الدنيا، فأظمأت نهاري وأسهرت، وكأني بعرش ربي بارزاً، وكأني بأهل الجنة في
الجنة ينعمون فيها، وكأني بأهل النار في النار يتعاوَوْن أو يتضاغون فيها،
قال له عليه الصلاة والسلام: ((أبصرت فالزم))، وفي رواية ((عبدٌ نَوَر
الله قلبه)).